وسائل المواصلات


وسائل المواصلات

قال تعالى: ﴿وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىَ بَلَدٍ لّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاّ بِشِقّ الأنفُسِ إِنّ رَبّكُمْ لَرَؤُوفٌ رّحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. وَعَلَىَ اللّهِ قَصْدُ السّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ النحل: 5-9.

الدلالة النصية:

في قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾؛ دلالة على تتابع ظهور وسائل مواصلات لا يعلم بها أحد زمن التنزيل تماثل الخيل والبغال والحمير في الركوب والانتقال؛ والنبأ متحقق اليوم، قال المراغي: “﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ مما يهدي إليه العلم وتستنبطه العقول كالقُطُر البرية والبحرية والطائرات التي تحمل أمتعتكم وتركبونها من بلد إلى آخر ومن قُطر إلى قُطر والمناطيد الهوائية التي تسير في الجو والغواصات التي تجري تحت الماء؛ إلى نحو أولئك مما تعجبون منه ويقوم مقام الخيل والبغال والحمير في الركوب والزينة”، وقال ابن عاشور: “الذي يظهر لي أن هذه الآية من معجزات القرآن الغيبية العلمية، وأنها إيماء إلى أن الله سيلهم البشر اختراع مراكب هي أجدى عليهم من الخيل والبغال والحمير، وتلك العجلات التي يركبها الواحد ويحركها برجليه..، وأرتال السكك الحديدية والسيارات..، ثم الطائرات التي تسير بالنفط المصفّى..، فكل هذه مخلوقات نشأت في عصور متتابعة لم يكن يعلمها من كانوا قبل عصر وجود كل منها، وإلهام الله الناس لاختراعها هو ملحق بخلق الله، فالله هو الذي ألهم المخترعين من البشر بما فطرهم عليه من الذكاء والعلم وبما تدرجوا في سلّم الحضارة واقتباس بعضهم من بعض إلى اختراعها، فهي بذلك مخلوقة لله تعالى لأن الكلّ من نعمته”، وقال الشنقيطي: “قوله تعالى ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾؛ ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يخلق ما لا يعلم المخاطبون وقت نزولها، وأبهم ذلك الذي يخلقه لتعبيره عنه بالموصول، ولم يصرح هنا بشيء منه، ولكن قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية كالطائرات والقطارات والسيارات، ويؤيد ذلك إشارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ذلك، في الحديث الصحيح روى الإمام  مسلم بن الحجاج رحمه الله.. بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (والله لينزلن ابن مريم حكما عادلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص [أي الإبل] فلا يسعى عليها).. الحديث، ومحل الشاهد من هذا الحديث الصحيح قوله: (ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها)؛ فإنه قسم من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ستترك الإبل فلا يسعى عليها، وهذا مُشاهد الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة، وفي هذا الحديث معجزة عظمى تدل على صحة نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم؛ وإن كانت معجزاته صلوات الله عليه وسلامه أكثر من أن تحصر”، وقال الألوسي: “والعدول إلى صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار والتجدد.. (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) على ظاهره”، وقال الزركشي: “أما الموصوفات.. (الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ) فإنك تبدأ بالأفضل فتقول قام الأمير ونائبه وكاتبه..، فقدم الخيل لأنها أحمد وأفضل من البغال، وقدم البغال على الحمير لذلك أيضا”.

وفي قوله تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالشّفَقِ. وَاللّيْلِ وَمَا وَسَقَ.وَالْقَمَرِ إِذَا اتّسَقَ. لَتَرْكَبُنّ طَبَقاً عَن طَبقٍ. فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ﴾ الانشقاق: 16-21؛ هذه الظواهر الليلية معاينة معهودة: الشفق فبزوغ الأجرام فالبدر أبهى أحوال القمر، وتستشعر مع تتابع تلك الظواهر حركة دل عليها الترتيب، فالشفق عند غروب الشمس وعندما يجن الليل ترى الأجرام تملأ صفحة السماء قبل أن يلفتك عنها بهاء القمر، ولكن ماذا يعقب الليل؟؛ إنها الشمس ساطعةً أبهى من القمر؛ هكذا إذاً يمكنك أن تستشرف نبأ لم يقع بعد يؤكده القرآن كأنه الشمس في وضح النهار: ﴿لَتَرْكَبُنّ طَبَقاً عَن طَبقٍ﴾، فالركوب يلزمه السفر والانتقال والهجرة كما في قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ غافر: 79و80، والمذهل أن الشكل المستدير المماثل للطبق هو بالفعل الذي يحقق الاستقرار في الفضاء حيث تنعدم الجاذبية فيمكن استعادتها بالتدوير، وقد صممت أول مدينة فضائية بهيئة طبق يدور؛ مساكنه ومزارعه في الأطراف وأبوابه يُرتقى إليها نحو السقف المحمي من الوهج بأغطية براقة كالفضة، وينعم سكانه بالرفاهية بدون منغصات كالزلازل والقوارض والأوبئة.

والحديث في كتاب الله تعالى عن الحضارات التي سادت على الأرض ثم بادت قبل نزول القرآن ورد بصيغة الماضي في قوله تعالى: ﴿أُولََئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ﴾ هود: 20، ولم يتواجد أحد منهم بالفعل قبل عصر الفضاء إلا في الأرض، ولكن مع الالتفات نحو حضارات المستقبل المخاطبين بالقرآن إلى قيام الساعة لم يُحصر تواجدهم في الأرض؛ قال تعالى: ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ﴾ العنكبوت: 22، وتلك الإضافة المبهرة المميزة لحضارات المستقبل بعد نزول القرآن: ﴿وَلاَ فِي السّمَآءِ﴾.

وجه الإعجاز:

لقد كان من ثمرات التقدم العلمي في الأزمنة الأخيرة اكتشاف وسائل النقل المتطورة من سيارات وبواخر وطائرات بل ومركبات فضائية، وهي تندرج تحت عمومات المراكب، وبما أن النص القرآني جاء في نهايته لفظ: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، فكان في ظهوره هذه الوسائط المتطورة والمتكاثرة تطابقاً تاماً مع دلالة النص القرآني، فدلنا ذلك على أن المتكلم هو خالق هذا الكون، وأن المبلغ بهذا الكلام هو رسول رب العالمين، وصدق الله العظيم القائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا﴾.