نزول الحديد


نزول الحديد

قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ الحديد: 25.

الدلالة العلمية:

في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾؛ تلازم إنزال (الْحَدِيدَ) مع إنزال (الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ)، وكأن إنزال الحديد توطئة خلال نشأة الأرض لإنزال الوحي برسالة التوحيد المعبر عنها بإفراد (الكتاب) وبشرائع أساسها العدل المعبر عنه تمثيلا بلفظ (الميزان)، ولما كانت معجزة خاتم النبيين هي (الكتاب)؛ ففيه دلالة على أن نبأ إنزال الحديد في تاريخ الأرض هو أحد تلك (البينات)، ولفظ (الإنزال) الأصل فيه الظاهر ما لم تستبعده قرينة؛ ولما كان الحديد هو أحد مكونات الكوكب، فإنزاله مقصور عليه؛ خاصة مع بيان خروج الماء ومكونات التربة كمقدمة لنشأة المراعي بخروج النبات والكلأ وعمران الأرض بالأحياء في قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا. وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا. مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ النازعات: 30-33، والمعروف حاليا أن الماء الذي خرج بهيئة أبخرة تُحيط بالأرض عندما كان سطحها ملتهبا قد نزل من سمائها مع تبرده، والقرآن قد ميز نزوله مرارا بالتعبير (من السماء) بخلاف الحديد؛ مما يؤكد قصر نزول الحديد على جسم الكوكب نحو اللب.

التوافق مع العلوم الحديثة:

تباين دلالة اللفظ تبعا للسياق من خصائص لغات التخاطب؛ وهي أجلى ما تكون في القرآن الكريم، والدلالات المعجمية لا يتحدد إحداها إلا من خلال السياق، ففي قوله تعالى: ﴿بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ البقرة :71؛ لا يستقيم حمل لفظ (الأرض) على الكوكب، لأن المقام يتعلق بمشهد معلوم، وهو إثارة بقرة للغبار مما يستقيم معه حمل لفظ (الأرض) على تربة الحقل، وفي قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ الحج: 15؛ لا يستقيم كذلك حمل لفظ (السماء) على الكون كله وإنما سقف البيت، لأن المقام يتعلق بمشهد معلوم، وهو مشنوق مربوط إلى ما يعلوه، وهو السقف عادة، ومدار لفظ (أنزلنا) في القرآن الكريم؛ سواء كان الإنزال حسيا أو معنويا، على تحقيق أمر جلل يستوجب الشكر كنعمة أو الاعتبار كنقمة لذا ناسبه التعبير بالتعظيم، وفي قوله تعالى: ﴿يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِينا النساء: 174؛ يتعلق المقام بوصف القرآن كنعمة تستوجب الامتنان لما فيه من رحمة للبشرية فناسبه تعبير (الإنزال)، وهو كقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ الزمر: 6؛ وأجناسها على النحو التالي: الضأن والمعز والإبل والبقر، وتمثل لحومها وألبانها أهم مصادر الغذاء للسكان في البوادي، وتعبير (الإنزال) إذن يكشف مدى الرحمة والإنعام في إيجاد تلك المواشي المعبر عنها بلفظ (الأنعام)، ولبيان هذا الإنعام في إيجاد اللباس لستر العورات والحماية من تقلبات الجو ناسب التعبير عن هذا الإيجاد بلفظ (الإنزال) في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾الأعراف: 26، ولذا قد أصاب الأعلام في حمل دلالة لفظ (الإنزال) في هذا المقام إلى معاني كالإيجاد والخلق والجعل والإنعام.

أما في قوله تعالى: ﴿وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ الحديد: 25؛ فالدلالة الحسية على نزول الحديد من جسم الأرض نحو اللب لا تنفي الدلالة المعنوية في الإنعام على الناس جميعا بهذا الإنزال لبأسه الشديد في الدفاع عنهم من مخاطر لم يكن يعلم بها إنسان حتى اكتشفت حديثا أحزمة (فان ألن) المغناطيسية التي تدفع عنهم مخاطر الرياح الشمسية بلا إدراك منهم، وقد جاء بيان إنزال الحديد على مستوى الكوكب باعتباره من أثقل مكونات الأرض في مقابل بيان إخراج المواد الأخف نحو السطح في قوله تعالى: ﴿وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا. وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا. مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ النازعات: 30-33، وهذا ما يتفق تماما مع المعرفة الحديثة بخروج كل ما أدى في النهاية إلى وجود مظاهر الحياة من نبات وحيوان المعبر عنها باللفظ الجامع (مَرْعَاهَا) بعد التهيئة بتكثف أبخرة الماء وانقشاع دخان البراكين الأولية، والسائد حاليا في علوم الأرض هو هبوط أثقل المواد ممثلة بالحديد نحو اللب الذي يتكون معظمه بالفعل من الحديد، وناسب اقتصار نزول الحديد على ما دون الجو الخلو من الإضافة (من السماء) التي لازمت في مواضع عديدة بيان نزول الماء من السحب في الجو نحو قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءً النمل: 60، ويتفق هذا مع تكون الأرض من طبقات يعلو بعضها بعضا أخفها الأعلى وأثقلها هو ما في باطنها المتكون غالبا من الحديد، وتتفق تلك الدلالة مع وصف ما في باطن الأرض صريحًا بالأثقال في قوله تعالى: ﴿وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ الزلزلة :2، فالوصف متعلق بالكرة الأرضية لأن ضمير (أثقالها) عائد عليها، والمعلوم حاليا بالفعل أن الكثافة تزداد مع العمق حتى تبلغ أقصاها في اللب، والتعبير ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ﴾ يتسع لمعاني أشمل، ويمكن حمل بأسه ومنافعه على المستوى الجزيئي، فذرة الحديد تتميز بقوة ترابط شديدة، وهي تدخل في تركيبات مهمة بالنسبة للأحياء مثل هيموجلوبين الدم، وحركة الحديد في لب الأرض أغلفة مغناطيسية تحيط بالكوكب وتحمي كافة أحياء الكوكب من خطر الرياح الشمسية المتأينة، وكل تلك الحقائق العلمية المكتشفة حديثا يُجملها قوله تعالى ﴿وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ.