طور المضغة


طور المضغة

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾المؤمنون: 12, ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾المؤمنون: 13, ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾المؤمنون: 14.

الدلالة النصية:

الشاهد هنا إطلاق لفظ مضغة على مرحلة من أطوار خلق الجنين في بطن أمه، يقول ابن كثير في هذه: “مضغة : قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط ، قدر ما يمضغ الماضغ ، وتتكون من العلقة”، وهذا ما يتوافق مع وصف الجنين في أول هذا الطور، حيث يتراوح حجمه من حبة القمح إلى حجم حبة الفول (3-5 مم)، وهو القدر الذي يمكن مضغه ويبدو سطحه من الخارج، وقد ظهرت عليه نتوءات الكتل البدنية والرأس والصدر والبطن، كما تتكون معظم براعم أعضائه الداخلية ، مع احتفاظه بالشكل الخارجي المشابه لمادة ممضوغة، ويصدق عليه أنه مخلق وغير مخلق .

الحقيقة العلمية:

لقد أوضح علم الأجنة الحديث مدى الدقة في اختيار تسمية (مضغة) بهذا المعنى: إذ وجد أنه بعد تخلق الجنين والمشيمة في هذه المرحلة يتلقى الجنين غذاؤه وطاقته، وتتزايد بذلك عملية النمو بسرعة وتبدأ الكتل البدنية المسماه فلقات التي تتكون منها العظام والعضلات.

ونظراً للعديد من الفلقات (الكتل البدنية) التي تتكون، فإن الجنين يبدو وكأنه مادة ممضوغة، عليها طبعات أسنان واضحة فهو مضغة.

ويمكن إدراك تتطابق مصطلح (مضغة) لوصف العمليات الجارية في هذا التطور في النقاط التالية:

  1. ظهور الفلقات التي تعطي مظهراً يشبه مظهر طبع الأسنان في المادة الممضوغة، وتبدو وأنها تتغير باستمرار مثلما تتغير آثار طبع الأسنان في شكل مادة تمضغ حين لوكها – وذلك للتغير السريع في شكل الجنين – ولكن آثار الطبع أو المضغ تستمر ملازمة، فالجنين يتغير شكله الكلي، ولكن التركيبات المتكونة من الفلقات تبقى.

وكما أن المادة التي تلوكها الأسنان يحدث بها تعفن وانتفاخات وتثنيات فإن ذلك يحدث للجنين تماماً.

  1. تتغير أوضاع الجنين نتيجة تحولات في مركز ثقله مع تكون أنسجة جديدة، ويشبه ذلك تغير وضع وشكل المادة حينما تلوكها الأسنان.
  2. وكما تستدير المادة الممضوغة قبل أن تبلع، فإن ظهر الجنين ينحني ويصبح مقوساً وشبه مستدير مثل حرف (C) بالإنجليزية.
  3. يكون طول الجنين حوالي (1سم) في نهاية هذه المرحلة، وذلك مطابق للوجه الثاني من معاني كلمة (مضغة) وهو (الشيء الصغير من المادة)، وهذا المعنى ينطبق على حجم الجنين الصغير لأن جميع أجهزة الإنسان تتخلق في مرحلة المضغة، ولكن في صورة برعم.

وأما المعنى الثالث الذي ذكره بعض المفسرين للمضغة (في حجم ما يمكن مضغه)، فإنه ينطبق ثانية على حجم الجنين ففي نهاية هذا الطور يكون حجم الجنين (1سم)، وهذا تقريباً أصغر حجم لمادة يمكن تلوكها الأسنان، وأما طور العلقة السابق فقد كان الحجم صغيراً لا يتيسر مضغه إذ يبلغ (3.5ملم) طولاً، ولا تتمايز الفلقات في البداية، ولكنها سرعان ما تتمايز إلى خلايا تتطور إلى أعضاء مختلفة، وبعض هذه الأعضاء والأجهزة تتكون في مرحلة المضغة والبعض الآخر في مرحلة لاحقة.

وجه الإعجاز:

  الوصف القرآني يقرر هذه الحقيقة في قوله تعالى : (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ( [الحج: 5]، تفصيل حال المضغة وكونها أولاً قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ، ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئاً؛ لذلك فالوصفان ) مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ( [الحج: 5] صفة مضغة، وأن هذا تطور من تطورات المضغة ، وإذ قد جعلت المضغة من مبادئ الخلق تعين أن كلا الوصفين لازم للمضغة.

وهو ما أكدته حقائق علم الأجنة في أن التخليق يبدأ من أول الأسبوع الرابع، وبالتحديد في اليوم الثاني والأربعين كما في رواية عبدالله بن مسعود في صحيح مسلم (2645)، وينتهي هذا الطور قبيل نهاية الأسبوع السادس، حيث يبدأ الطور التالي في التخليق وهو طور العظام.وبهذا التوافق بين ما كشف عنه علم الأجنة وبأدلة يقينية، مع ما دل عليه النص الشريف، يثبت لنا وجه آخر من أوجه الإعجاز العلمي ولله الحجة البالغة.