تيارات الريح الجوية النفاثة


تيارات الريح الجوية النفاثة

قال تعالى: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ المرسلات: 1, ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾المرسلات: 2, ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾المرسلات: 3, ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا﴾المرسلات: 4, ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا﴾ المرسلات: 5.

الدلالة العلمية:

في قوله تعالى: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا﴾ المرسلات: 1, ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا﴾المرسلات: 2, ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا﴾المرسلات: 3, ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا﴾المرسلات: 4, ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا﴾ المرسلات: 5؛ قال ابن جزيء المتوفى عام 741 ه  – رحمه الله تعالى – على القول بأنها الرياح سماها(المرسلات) لقوله (الله الذي يرسل الرياح)، وسماها (العاصفات) من قوله (ريح عاصف)؛ أي شديدة، وسماها (الناشرات) لأنها تنشر السحاب في الجو؛ ومنه قوله (يرسل الرياح فتثير سحابا)، وسماها (الفارقات) لأنها تفرق بين السحاب؛ ومنه قوله (فيجعله كسفا)، و أما (الملقيات ذكرا) فهم الملائكة؛ لأنهم يلقون الذكر للأنبياء عليهم السلام، والأظهر في (المرسلات) و(العاصفات) أنها الرياح؛ لأن وصف الريح بالعصف حقيقة، والأظهر في (الناشرات) و(الفارقات) أنها الملائكة؛ لأن الوصف بالفارقات أليق بهم من الرياح، ولأن (الملقيات) المذكورة بعدها هي الملائكة، ولم يقل أحد أنها الرياح، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء؛ فقال (والمرسلات.. فالعاصفات)، ثم عطف ما ليس من جنسها بالواو؛ فقال (والناشرات) ثم عطف عليه المتجانسين بالفاء (فالفارقات)”، و(العرف) في وصف الرياح يعني التموج تمثيلا بعرف الفرس أو الديك، والتمثيل يعني أيضا الشيء المرتفع، لأن الأعراف مرتفعة؛ ومنه قوله تعالى:(وعلى الأعراف رجال)، والقسم بها وتميزها بالمصاحبة مع عواصف تتبعها يعني أنها شديدة وسريعة، فدل التعبير على تيار رياح خاصة قوية ومرتفعة في الجو ومتموجة، ولم يكن يعلم أحد قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بوجود رياح تطابق الوصف بالقوة والارتفاع والتموج حتى وجدت الطائرات المتجهة غربا إعاقة في مواجه تلك الرياح العاتية؛ ولم يكن سبيل إلا بتغيير الارتفاع وتجنبها، وتستفيد الملاحة الجوية اليوم من تلك الظاهرة بحيث تكون مدة الرحلة أقل للمتجه شرقا.

  

التوافق مع العلوم الحديثة:

الرياح هواء متحرّك، وقد تهب الرياح بلُطف أو قد تهب بسرعة وعُنف لدرجة تجعلها تدمر المباني وتقتلع الأشجار الكبيرة من جذورها، والرياح القوية يمكنها أن تضرب سطح المحيط وتولد أمواجا عاتية يمكن أن تحطم السفن وتغمر الأرض لتحطم المنشآت على الشاطئ، وبإمكان الرياح كعامل مؤثر من عوامل التعرية أن تُبلي الصخر وتغير ملامح الأرض على المدى الطويل، والرياح جزء من الطقس؛ فاليوم الحار الرطب قد يتحول فجأة إلى بارد إذا ما هبّت الرياح من منطقة باردة، والسحب المُحَمَّلة بالمطر والبرق قد تتكون حيث يلتقي الهواء البارد بالهواء الحار الرطب، وتحدث الرياح نتيجة التسخين غير المتساوي للجو عن طريق الطاقة المنبعثة من الشمس، فالهواء الذي يعلو المناطق الحارة يتمدد ويرتفع ويحل محله هواء من المناطق الأبرد، وتسمى هذه العملية دورة، وتسمى الدورة فوق الأرض بكاملها بالدورة العامة بينما تسمى الدورات النسبية الصغرى والتي يمكن أن تتسبب في حدوث تغيرات في الرياح يومًا بعد يوم بالدورات النسبية الشاملة للرياح، أما الرياح التي من الممكن أن تحدث في مكان واحد فقط، فإنها تُسمّى بالرِّياح المحليَّة.

وتحدث الدورة العامة للرياح فوق قطاعات كبيرة من سطح الأرض، وتُسمّى هذه الرياح السائدة، وتتنوع هذه الرياح باختلاف خط العرض؛ فبالقرب من خط الاستواء يرتفع الهواء الساخن إلى ما يقرب من 18كم، فيتحرك الهواء الأبرد ليحل محل الهواء المرتفع في نطاقين من الرياح السائدة، ويقع هذان النطاقان بين خط الاستواء وخطيّ عرض 30 ° شمالاً وجنوباً وتُسمّى الرياح في هذه المناطق بالرياح التجارية، وسبب التسمية اعتماد التجار عليها قديما في إبحار السفن التجارية، ولا تهب الرياح التجارية في اتجاه عمودي تماما على خط الاستواء بسبب حركة الأرض حول نفسها نحو الشرق ومعها الغلاف الجوي، وتجر حركة الأرض الجو معها فيتأخر عنها مما يدفع الهواء المتحرك غربا في كل من الشمال والجنوب، ويعود بعض الهواء الذي ارتفع عند خط الاستواء إلى سطح الأرض بين خطي عرض 30 ° شمالاً وجنوبًا من خط الاستواء فتضعف الرياح عند الحزامين لأن حركة الريح رأسية نحو الأسفل، ويقال أن سبب تسمية تلك المناطق بعروض الخيل هو أن عددًا كبيرًا من الخيول قد نَفَقَتْ على ظهر السفن الشراعية التي توقفت عن الحركة فيها بسبب شدة ضعف الرياح.

وقد صنف فرانسيس بوفورت 1857-1774( Francit Beaufort ) عام 1805 الرياح تبعا لشدتها وتأثيرها على السفن الشراعية إلى درجات، ثم عُدِّل الجدول لاحقا وفقا لسرعة الريح والتأثيرات على اليابسة، ووفقا لمقياس بيفورت المتدرج Beaufort’ Scale المعتمد لدى المنظمة العالمية للأرصاد الجوية World Meteorological Organization وجد أنه يلتقي مع تصنيفات الريح التي ذكرها القرآن على نحو مذهل، فمثلا درجة 7: دون الهبوب Near gale السرعة: 52 – 63 كم/ ساعة، ويكاد يجعل السير صعبا في مواجهته، ويقابله قوله تعالى: { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ } الإسراء، ودرجة 8: هبوبGale  سرعته 63 – 76 كم/ساعة ويصعب السير في مواجهته، ودرجة 9: هبوب قوي Strong gale  سرعته 76 – 89 كم/ساعة يجعل الألواح الخشبية تتطاير، ويقابلهما قوله تعالى: { جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } يونس، ودرجة0 : عاصفة Storm  سرعتها 89 – 104 كم/ساعة تقتلع الأشجار وتتلف بعض المباني، ودرجة 11 : عاصفة عنيفةViolent Storm  سرعتها 104 – 119 كم/ساعة وتسبب تلف شديد للمباني، ويقابلهما قوله تعالى: { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } الحاقة، ودرجة:12 إعصار Hurricane  سرعته تزيد عن 119 كم L ساعة يسبب دمار متباين الشدة تبعا لسرعته وربما حرائق، ويقابله قوله تعالى: { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } البقرة، ولا يصدر هذا التوافق العجيب بين التقسيم العلمي المعاصر للرياح وبين أنواعها التي ذكرها القرآن إلا عن علم خاصة أن هذا التنويع مع بيان خصائص كل نوع وفق شدته و آثاره لا تجده في أي كتاب آخر يُنسب للوحي غير هذا الكتاب الكريم.

وقد اكتشف حديثا ما يسمي بالرياح النفاثة Jet Stream على ارتفاعات عالية في الجو متموجة الشكل، وعندما تتكون تلك التيارات، فإن العاصفة تتبعها عند التقاء كتل هوائية باردة و أخرى ساخنة، وفي قوله تعالى: { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) } المرسلات؛ والعرف في الأصل هو عرف الفرس أو الديك وهو متموج الشكل، ويسمي كل مرتفع عرفا كما في قوله تعالى: { وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ } الأعراف، وفي التفسير أن “َالمرْسلات عُرْفًا” وصف لرياح ترسل متتابعة، وأن “فالعاصفات عصفا” وصف آخر يتبع الأول للرياح، وهو وصف عجيب وبيان مذهل يلتقي من كل وجه مع المعرفة الحديثة بالرياح النفاثة لأنها قوية كما يفيد تمييزها وملازمتها للعواصف، وهي مرتفعة ومتموجة، ويلتقي مع تأثيرها في نشأة الأعاصير الدوارة؛ فالأول وصف لشكلها المتموج وقوتها وسرعتها وموضعها، والثاني بيان لتأثيرها في نشأة الأعاصير؛ وهي رياح أقرب لسطح الأرض تجعلها الرياح النفاثة عواصف دوارة أو أعاصير، وتلك هي خلاصة كشف علمي لم يعرفه الباحثون إلا حديثا جدا.