الموت المبرمج


الموت المبرمج

قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ الواقعة: 60، وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ الملك: 2

الدلالة النصية:

في قوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ بيان بأن الموت مقدر منذ نشأة الفرد وفق أجل مبرمج يخص النوع الإنساني؛ إذا لم تعاجل المشيئة العلية الأجل بحدث ينهي حياة الفرد، وعليه يمكن حمل التعبير ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ على إيجاد أسباب الموت والحياة عند نشأة كل كائن حي، وتقديم (الموت) يستقيم مع كونه حتمي الوقوع، والحياة احتمال، قال محمد سيد طنطاوي: “قدم الموت على الحياة لأن الموت إلى القهر أقرب”، وبالمثل في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ النجم: 44؛ قال محمد الطاهر بن عاشور: “وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِبْرَةُ بِالْإِمَاتَةِ لِأَنَّهَا أَوْضَحُ عِبْرَةً”، وأما قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ فيفسره قوله تعالى: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ مريم: 67؛ باعتبار أن لفظ (الموت) قد يرد بمعنى عدم وجود حياة، كوصف الأرض غير المنبتة بالموت، كما يرد بمعنى سلب الحياة.

الحقيقة العلمية:

يمكن حاليا تقديم الأدلة على أن أسباب الموت على المستوى الخلوي قد خلقت مع أسباب الحياة منذ نشأة أول خلية في كل كائن حي، فكما توجد تكوينات داخل الخلية تمدها بأسباب الحياة مثل حبيبات اليخضور في النبات التي تصنع الغذاء، والتكوينات التي تصنع البروتين في الحيوان؛ توجد تكوينات تختزن إنزيم ليزوزوم (Lysosome) يحلل الخلية ويهضمها عند إصابتها، وعلى مستوى النوع يمكن إثبات أن الشيخوخة حالة مقدرة Predetermined وفق برنامج موروث يعكس العلم والحكمة في الخلق، ومن تلك الأدلة اكتشاف حد لعدد انقسامات الخلية (حد هايفليك Hayflick’s limit)، وتؤيد الأبحاث العلمية الحديثة أن الشيخوخة ليست إلا وجهًا من الموت المبرمج للجسم، وأما اكتشاف الموت المبرمج للعضيات الخلوية الدقيقة، والموت المبرمج للميتوكوندريا داخل الخلية، فقد أضافا مزيدًا من الأدلة على أن الأحداث الحيوية مقدرة بحكمة، حيث تذوي العضيات الخلوية الدقيقة أو الميتوكوندريا عندما تصبح ضارة أو غير ذات فائدة، ومثله اكتشاف ظاهرة الموت المبرمج للخلية.

فقد كان الاعتقاد السائد أن الخلايا الحية المستنبتة معمليٌّا قادرة على الانقسام بلا حدود، ولكن تبين مؤخرًا أن قدرتها على الانقسام محدودة، أي أنه بعد عدد محدود من الانقسامات تشيخ المزرعة الخلوية وتموت، ومن هنا ظهر الافتراض بوجود آلية داخل الخلية معنية بالتحكم في العمر عن طريق توقيف الانقسام، وإفساح المجال لعمليات الهدم لتميت الخلية، ومن ثم عكف الباحثون على اكتشاف هذه الآلية المفترضة، ومنذ سنوات يسيرة اكتشف أن الجزء الأخير Telomere عند نهايتي كل فتيلة وراثية (كروموزوم Chromosome) ينقص طوله مع كل انقسام وتضاعف منظومة صانع البروتين (الحمض النووي DNA)، وتبين أنه يعمل كساعة أو عداد يحسب عدد الانقسامات، ويقوم كذلك عند الانقسام بحفظ المادة الوراثية من التبعثر والاندماج الخاطئ، ويسمى الغطاء الطرفي End cap أو عداد التضاعف Replico-meter، ويمكن أيضًا أن يسمى عداد الأجل Longevity-meter لأن طوله إذا وصل إلى حد حرج يقف الانقسام وتموت الخلية، ولا ينقص طول الغطاء الطرفي في الخلايا الجينية الأم Stem cells وخلايا السرطان Cancer لأن الإنزيم الباني يعوض ما ينقص منه، وكلما تقدم العمر ينقص طوله في الخلايا الجسدية لغياب الإنزيم، وفي الشيخوخة يكون بالغ القصر.

وتتبدى الشيخوخة في وقت محدد نتيجة لآليات خلوية معقدة تعمل متزامنة في تناسق عجيب، والخلية الحية محدودة الأجل خاصة في الأنسجة سريعة التجدد، وتقف وظائفها عند حد معين وتذبل وتموت، وفي بداية الستينيات من القرن الماضي أطلق ويشمان Weismann وكاريل Carrel على توقف تلك الوظائف تعبير شيخوخة الخلية Cell senescence، ولم تدرك العلاقة بين شيخوخة الخلية وتناقص طول الغطاء الطرفي إلا مؤخرًا خاصة بعد اكتشاف جريدر Greider وبلاكبورن Blackburn الإنزيم الباني للغطاء الطرفي Telomerase عام 1985م، وكان أول من ربط بين شيخوخة الخلية وفقد جزء من طول الغطاء الطرفي هوارد كوك Howard Cooke عام 1986م، فقد وجد أن الخلايا المستنبتة المأخوذة من صغار السن ذات أغطية طرفية أطول، وأن مرات انقسامها أكبر من الخلايا المأخوذة من كبار السن، وفي عام 1989م اكتشف مورين Morin أن نشاط الإنزيم الباني زائد في الخلايا السرطانية، وهو ما أيد فرضية أولوفنيكوف Olovnikov سابقًا عام 1971م، من وجوب وجود آلية تخرج انقسام الخلايا السرطانية عن السيطرة، وزيادة الإنزيم الباني في الخلايا السرطانية دون الخلايا الطبيعية تعوض ما يفقد من طول الغطاء الطرفي بالانقسام فلا يتناقص طوله، وبالتالي تنقسم الخلايا السرطانية بلا توقف، وزيادة الإنزيم في الخلايا السرطانية قد أيدتها الأبحاث المتوالية منذ عام 1994م إلى اليوم، وهذا معناه إمكانية القضاء على مرض السرطان بوقف نشاط الإنزيم الباني عن طريق عقار مضاد يوقف عمله أو عمل المورث (الجين) المولد له، وإمكانية تأخير الشيخوخة بتعاطيه كعقار أو التداوي بالمورث المولد له. واللافت للنظر أن الأغطية الطرفية للفتائل الوراثية قد وجدت قصيرة ابتداء في حالة الإصابة بمرض الشيخوخة المبكر Progeria، بينما وجدت طويلة ابتداء في حالة الخلايا الجنينية الأم Stem cells التي تتولد عنها لاحقًا كافة أنسجة الجسم، وهذا يعطي الأمل للباحثين في استخدامها في عمليات استبدال الأنسجة التالفة كما في حالات تلف خلايا البنكرياس في مرض البول السكري وتلف خلايا المخ في مرض الذهان، وأحدث الاكتشافات حتى الآن هو التعرف على زوج من الجينات البشرية مُهِمَّتُهما تثبيط إنتاج الإنزيم الباني والتمهيد للشيخوخة، ومحاولة لاستخدام الإنزيم مؤشرًا Marker لاكتشاف السرطان مبكرًا، وفي عام 1998م أعلن بودنار Bodnar عن نجاحه في تأجيل شيخوخة مزرعة خلوية بشرية بمدها بالإنزيم الباني، وفي عام 2001 حاول شاي Shay فتح باب استخدام مثبطات الإنزيم الباني للغطاء الطرفي لوقف النشاط السرطاني.

وجه الإعجاز:

إن هذه الأبحاث تؤكد بأن موت الخلايا مبرمج وبالتالي فالموت للكائن الحي المبرمج داخل خلاياه هو حتم مقدر من قبل خالقه العظيم القائل: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ (الواقعة:60)، وبذلك يكون هذا الكشف العلمي متطابقاً مع دلالة تلك الآيات القرآنية، مما يدل أن مصدرها الخالق جل وعلا، وأن مبلغها رسول من لدن حكيم عليم.