الشيخوخة


الشيخوخة

قال تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾ يس: 68، وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ النحل: 70، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ الروم: 54، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى﴾ غافر: 67، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ الحج: 5.

الدلالة النصية:

في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾؛ التنكيس انقلاب الهيئة تمثيلاً لتغيرات طبيعية مقدرة حال الشيخوخة ترتبط بعمر الإنسان؛ حتى ولو لم تصبه أية أمراض، وتشمل الشكل والوظيفة، وتنال كافة أعضاء الجسم، وأهم تلك التغيرات فقدان القدرات العقلية في التعلم  لقوله تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾، أخبر المولى سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن من طال عمره تنكس في خلقه، أي: انقلب حاله وارتدت قواه، وتراجعت قدراته متجهة نحو الضعف والوهن وصار كمن انتكس انقلب رأساً على عقب، ويكشف هذا الوصف الدقيق العلم بحالة عامة من التدهور والارتداد تتسع لتشمل كافة التغيرات الظاهرة والخفية وذلك لاستيعاب لفظ ﴿الْخَلْقِ﴾ لكافة التركيبات والأنشطة البدنية، ومنذ نزول القرآن الكريم في القرن السابع الميلادي إلى عقود قليلة لم يكن معروف سوى التغيرات الظاهرة في الهيئة، ومع توفر التقنيات وتقدم الدراسات لم تخرج التغيرات الخفية المكتشفة حديثاً عن هذا الوصف الجامع.

الحقيقة العلمية:

أول من تنبه لظاهرة الشيخوخة كحالة تدهور بدني وقصور في الكفاءة الوظيفية كتأثير مستقل يتعلق بالعمر هو الطبيب الفرنسي شاركوت Charcot عام 1881م، ولم يتبعه أغلب الباحثين إلا في القرن العشرين، ولذا نعجب أن يولي القرآن موضوع الشيخوخة عنايته قبل ذلك بأكثر من عشرة قرون، ولا تجد لهذا نظيرًا في أي كتاب آخر ينسب اليوم للوحي غير القرآن الكريم، وإن إدراك خفايا الشيخوخة في عصرنا حيث توفرت التقنيات إنما هو شهادة للقرآن بالوحي.

إن الشيخوخة Tenescence حالة متدرجة لا مفر منها من التدهور والانهيار تصيب كافة الأجهزة والأعضاء والأنسجة والخلايا فتضعف قدرتها على التكيف والحفاظ على التوازن عند التعرض للضغوط، ويمر بها كل كائن حي عند الهِرَم Aging وفقًا لنوعه في طول الأجل، ولذا فالنظرة الحديثة أنها حالة تدمير ذاتي مبرمج Phenoptosis يفسح المجال لأجيال جديدة وأنماط تحافظ على استمرار الحياة وتنوعها، والشيخوخة إذاً ليست حالة مرضية، وإنما هي مرحلة تكثر فيها الأمراض، وحينئذ تصبح شيخوخة مَرَضية Senility، وتفاصيل ذلك يعتني بها علم جديد اسمه علم الشيخوخة Gerontology، ويرى أكثر المختصين أن الشيخوخة ظاهرة في غاية التنظيم وترجع أساسًا إلى برنامج وراثي موحد لكل نوع من الأحياء تنفذه المورثات (الجينات Genes)، ومن الجائز وجود عوامل داخلية أو بيئية تدفع المورثات لإحداث التغيير، وقد تقوم بعض العوامل بتعجيل ظهور العوارض كالأمراض المزمنة مثل مرض البول السكري أو ارتفاع ضغط الدم.

ويرى البعض أن الشيخوخة حصيلة عوامل تخريبية تصيب الجسم مع الزمن كالإشعاعات ووقوع الطفرات Mutations، وتراكم المواد المؤكسدة Oxidizing agents الناتجة عن الطعام وغيره، ويرى آخرون أنها نتيجة لاستهلاك الأعضاء مثلما تبلى وتتمزق الملابس بالاستخدام Wear & Tear، وتشارك الغدة النخامية الواقعة تحت سيطرة منطقة تحت المهاد Hypothalamus في المخ بإنقاص إفراز هورمون النمو والهورمونات الجنسية، وأما التغيرات الإنزيمية والمناعية والترسبات داخل الخلايا فالأغلب أنها نتيجة وليست سببًا، وتميل الدراسات الإحصائية إلى تأييد الجانب الوراثي كسبب رئيس، حيث وجد أن التوائم المتماثلة ذوي البرنامج الوراثي الموحد تميل للتماثل كذلك في طول العمر، ويميل أبناء الوالدين طويلي العمر للعيش عمرًا أطول من أبناء الوالدين ذوي العمر الأقصر، وكذلك يتميز كل نوع من الكائنات الحية بحد مقرر ثابت لطول الأجل.

وينسجم هذا الوصف المطابق للواقع مع نظائر عديدة تتعلق بوصف مراحل العمر عامة أو مرحلة الشيخوخة خاصة، وهنا نلاحظ قول ابن منظور: “النكس: قلب الشيء على رأسه”، والمقام يتعلق بوصف حالة الإنسان وكفاءته في أواخر العمر بعد بلوغ غاية الكفاءة في مرحلة الشباب، ولذا التعبير بفعل (النكس) في الآية الكريمة يعني انقلاب الحال في الخلق، قال أبو السعود: “فلا يزال يتزايد ضعفه وتتناقص قوته وتنتقص بنيته ويتغير شكله وصورته حتى يعود إلى حالة شبيهة بحال الصبي في ضعف الجسد، وقلة العقل، والخلو عن الفهم والإدراك”، ولفظ (الخلق) هنا تعبير عن البنية والجوارح أو الخلقة، قال ابن تيمية: “وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر، فيسمى المخلوق خلقًا؛ لقوله تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ)”، وقال ابن كثير: “هو الضعف في الخلقة”.. (لأن) “الخلق يستعمل بمعنى المخلوق”.. “

وجه الإعجاز:

حيث: تتغير فيه كل الصفات،  وتصاب بالتدهور، مما يترجم عنه الوصف بالتنكيس، إن إخبار القرآن الكريم غير حالة الضعف والكبر لنظام يستوعب كل إنسان ودلائله الظاهرة والباطنة،  وبالفعل تصيب الشيخوخة كافة الأعضاء بالجسم، وتعرقل وظائفها، وتمهد للإصابة بأمراض عديدة تلازم التقدم في العمر، وبهذا يكشف القرآن لنا عن خفايا التكوين في بيان معجز لا يعارض الحقائق الخفية، ولا يصدم المعارف السائدة زمن التنزيل.