الذباب


الذباب

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ الحج: 73و74.

الدلالة النصية:

في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾؛ دلالة على أن ما يتناوله الذباب بجنسيه من غذاء لا يمكن استرداده لتميز الذباب بهضم طعامه خارج الأمعاء عن طريق إنزيمات هاضمة يفرزها مع اللعاب، وامتصاصه مذاب كسائل.

الحقيقة العلمية:

كما ذكرنا فإن في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾؛ دلالة على أن ما يتناوله الذباب بجنسيه من غذاء لا يمكن استرداده، دلالة على أن الذباب يهضم طعامه خارج الأمعاء عن طريق إنزيمات هاضمة يفرزها مع اللعاب وامتصاصه مذاب كسائل، لذلك فإن فمه ماص، فلو وقف الذباب على قطعة طعام مثلاً لبدأ في إفرازاته التي تمكنه من امتصاص المواد الكربوهيدراتية وغيرها مما تحتويه قطعة الطعام، وعندئذ تبدأ هذه المواد في الدخول في جهازه الهضمي ثم تسير في الدورة الدموية إلى خلاياه، ويتحول جزء منها إلى طاقة تمكنه من الطيران، و جزء آخر إلى خلايا وأنسجة ومكونات عضوية وجزء أخير إلى مخلفات يتخلص منها جسم الذباب، فأين قطعة الطعام وما السبيل إلى استرجاعها، ومن يستطيع إذاً أن يجمع الأجزاء التي استهلكت في طاقة طيران الذباب، والأجزاء التي تحولت إلى أنسجة!.

وتكوين الذباب تشريحياً ووظيفياً على درجة كبيرة من التعقيد، والتكيف مع بيئتها مما ينفي المصادفة العمياء في تكوينها، وإعدادها كآية على بديع صنع الخالق وقدرته، ففي البداية تقوم الذبابة بمعاينة الغذاء عن طريق جملة عيون مركبة، وجملة وسائل أخرى كيماوية تستشعر بها موضع الغذاء وتهيئة الأعضاء التي ستستخدمها في الطيران، ثم تأخذ وضعية التأهب للطيران، وذلك بتعديل وضع أعضاء التوازن الموجودة في الجهة الأمامية، وأخيراً تقوم بحساب زاوية الإقلاع معتمدة على اتجاه الريح التي تحددها بواسطة حساسات موجودة على قرون الاستشعار، ثم تطير مرفرفة بأجنحتها صوب الغذاء، وهي قادرة على زيادة سرعتها حتى تصل إلى 10كم /ثانية إذا تطلب الأمر، إلا أن كل هذه العمليات لا تستغرق أكثر من 1/100 من الثانية، وهي تسلك أثناء طيرانها مساراً متعرجاً في الهواء بطريقة تجعل اصطيادها متعسراً على مفترسات الحشرات؛ ولذا هي تستحق الوصف بسيدة الطيران البهلواني، كما يمكنها الإقلاع عمودياً من المكان الذي تقف فيه، وأن تحط بنجاح على أي سطح بغض النظر عن انحداره حتى لو كان سقفاً؛ لأن أقدامها مهيأة للتثبت بقوة أكبر من وزنها.

وتوجد على رؤوس أقدامها وسادات تفرز سائلاً لزجاً عندما تلامس الأسقف، وتقوم الذبابة بمد سيقانها باتجاه السقف عندما تقترب منه، وما إن تشعر بملامسته حتى تستدير وتمسك بسطحه، وتحمل ذبابة المنزل جناحين رقيقين يتحركان عند الطيران إلى الأمام والخلف على محور واحد في ذات الوقت، ومع ذلك يمكنها استعمال أحدهما بمعدل أكبر من الآخر مما يمكنها من الطيران المتعرج وتجنب الافتراس، وتستمد الذبابة مهارتها الفائقة في الطيران من التصميم المثالي للأجنحة، وتغطي النهايات السطحية والأوردة الموجودة على الأجنحة شعيرات حساسة جداً مما يسهل على الحشرة تحديد اتجاه الهواء والضغوط الميكانيكية عند الإقلاع والانبساط عند الهبوط، وتقوم الحساسات الموجودة تحت الأجنحة والرأس بنقل معلومات الطيران إلى الدماغ، فإذا صادفت الحشرة تياراً هوائياً جديداً أثناء طيرانها تقوم هذه الحساسات بنقل المعلومات الجديدة في الحال إلى الدماغ، وعلى أساسها تبدأ العضلات بتوجيه الأجنحة بالاتجاه الجديد، وبهذه الطريقة تتمكن الذبابة من اكتشاف تغيرات محيطها أثناء الطيران باستشعار أي تيار هوائي إضافي، والهرب إلى مكان آمن في الوقت المناسب، وتتكون عين الذبابة من 6000 بنية عينية سداسية يطلق عليها اسم “العوينات”، تأخذ كل من هذه العوينات منحى مختلفاً بحيث تتمكن من معاينة كل الجهات؛ أي أن حقل رؤيتها لما حولها تتسع زاويته 360 ،ْ مما يمكنها من تحديد موضع الغذاء بدقة والهروب سريعاً في الاتجاه المعاكس لمصدر الخطر، وتتصل ثمانية أعصاب مستقبلية للضوء بكل واحدة من هذه العوينات مما يجعلها في غاية الكفاءة والسرعة في الاستشعار بحيث تعالج حوالي 100 صورة في الثانية الواحدة، فمن حسب كل هذه الحسابات بدقة بالغة وهيأها على تلك الصورة المذهلة تشريحيا ووظيفيا!؟، وتضع ذبابة الفاكهة البيض داخل الثمرة خاصة الجوافة لتتغذى الديدان (اليرقات) بعد الفقس عليها، وغالبا تسقط الثمرة لتكمل العذارى دورتها في التربة، وقد وجد تشابه كبير بين جينات ذباب الفاكهة، وجينات الإنسان مما يعني أن دراستها تفتح مجالا واسعا لخدمة الإنسان في علاج الأمراض خاصة السرطان، وتوماس هانت مورجان هو أول من اكتشف أهمية الذباب في أبحاث الوراثة والتخليق في بدايات القرن العشرين، ويستخدم ذباب الفاكهة منذ مائة عام في دراسة المورثات لعدة أسباب؛ منها اشتراكه مع البشر في أكثر من 20 جينا وراثيا خاصا بحرق الدهون، ولذا عملية استخلاص الطاقة من الدهون لدى الذبابة تشبه إلى حد مذهل تلك التي يقوم بها الجسم البشري مما يعطي الأمل لعلاج مرض البول السكري وأمراض الكبد، وتحتوي خلايا بعض أنواع ذبابة الفاكهة على ثلاثة أزواج فقط من المورثات الضخمة الواضحة مجهريا في مقابل 23 زوجا عند الإنسان، ومن أسباب استخدام ذبابة الفاكهة إذن لأبحاث الوراثة والتخليق ما يلي:

(أولا): كونها صغيرة الحجم قصيرة العمر بحيث تسهل دراسة جملة أجيال.

 (ثانياً): تتكاثر بسرعة لان دورة حياتها لا تتعدى أسبوعين مع سهولة التربية وقلة التكاليف ولا تنقل للإنسان أمراضاً.

 (ثالثاً): مورثاتها ضخمة بسيطة سهلة الدراسة.

 (رابعاً): التشابه الجيني بينها وبين الإنسان، وتعتمد أنثى الذباب في القتال على المناورة وميل الذكر إلى الاندفاع والمباغتة، ويمكن تبدل أسلوب الجنسين بتبديل جين مسئول مما يعني إمكان تغيير الصفات، وقد اكتشفت مورثة عند الذباب تماثل المورثة عند الإنسان التي تسبب مرض الشيخوخة المبكر مما يعني إمكان تعطيل أسباب إسراع شيخوخة الإنسان بالدراسة الوراثية للذباب، وأمكن عزل بروتين ضروري لنمو الأجنة في ذبابة الفاكهة يساعد الثدييات في التئام الجروح مما يعني رؤية جديدة حول آليات التئام الجروح عند البشر، وذبابة الفاكهة قد تساعد على إيجاد طريقة للعثور على مركبات تزيد نشاط الجسم في مكافحة المواد السامة؛ الأمر الذي قد يساعد في إيجاد علاج للسرطان، فالذبابة إذاً هي الأنسب في أبحاث الوراثة ومحاولة تخليق صور جديدة من الحياة، ولكن قد أجريت تجارب على ذبابة الفاكهة لسنوات طويلة وتم إجراء تغييرات جينية، وإنتاج طفرات، فنتج أكثر من 400 نوع، ولكن كلها مشوهة أو عقيمة لا تنتج نسلاً، وقبل أن ينشأ علم الوراثة وتصبح الدراسات في تخليق ونقل الصفات واقعا ملموسا اليوم يأتي القرآن في مقام النبوءة بمحاولات الإنسان التخليق باللفظ (ذباب) بالجمع؛ مما يعني أن الذباب بجنسيه يمكن أن يكون هو الأنسب في الدراسات الوراثية فضلا عن تميز الجنسين بهضم الطعام خارج الفم، وقد فشلت كل المحاولات لخلق خلية حية واحدة من جسم ذبابة؛ فكيف بأجهزة جسم الذباب البالغ التعقيد والتنظيم والكفاءة الوظيفية، وكيف بالأعقد منه!.

وجه الإعجاز:

لقد أثبتت البحوث العلمية المستفيضة عدم إمكانية استرجاع ما يأخذه الذباب مما يقع عليه، بسبب الآلية التي تحصل مما سبق ذكره، ولقد ورد النص الذي يدل على هذه الحقيقة، وأن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه قبل أربعة عشر قرناً، حيث كان يستحيل على البشر إدراك تلك الحقيقة التي طابقت الدلالة النصية، فكان ذلك مثالاً رائعاً من أمثلة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.