الحجر الصحي


الحجر الصحي

في الصحيحين : (الطاعون بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى: (إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها) رواه البخاري ومسلم وأحمد، وفي رواية البخاري : (الطاعون كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، فليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد) رواه البخاري وأحمد، وفي رواية للإمام أحمد: (الفار من الطاعون كالفار من الزحف ومن صبر فيه كان له أجر شهيد).

الدلالة النصية:

يرد الطاعون بمعنى الوباء فيشمل كل الأمراض الوبائية المعدية اليوم المماثلة في خطورتها لمرض الطاعون Plague المعروف طبياً، وقد أشار التوجيه النبوي إلى وجوب عدم خروج الأصحاء من أرض الوباء؛ فاتفق ذلك مع المعرفة الحديثة، بإمكان حملهم للمرض بلا أعراض خشية أن ينقلوه لمن هم خارج دائرة الإصابة، بينما لا خوف عليهم من الإصابة بالمرض حيث أن جهاز المناعة لديهم مقاومته كبيرة بحيث لم تظهر أعراض، وقد أشار التوجيه النبوي كذلك إلى عدم دخول منطقة الإصابة حيث يمكن أن يصاب بعضهم، وبهذا وضع أساس الحجر الصحي المعمول به اليوم.  

الحقيقة العلمية:

من المعلوم حاليا أن الحجر الصحي من أهم وسائل مقاومة انتشار الأمراض الوبائية، والحديث النبوي قد حدد بجلاء مبادئ الحجر الصحي كأوضح ما يكون التحديد، فهو يمنع الناس من الدخول إلى البلد المصاب بالطاعون كما يمنع أهل تلك البلدة من الخروج منها، ومفهوم الحجر الصحي طبياً لم تعرفه البشرية وتمارسه إلا حديثاً، ومنع السليم من الدخول إلى أرض الوباء قد يكون مفهوماً بدون الحاجة إلى معرفة دقيقة بالمرض، ولكن منع سكان البلدة بالمصابة بالوباء من الخروج وخاصة منع الأصحاء منهم يبدوا عسيراً على الفهم بدون معرفة واسعة بالعلوم الطبية الحديثة، فالمنطق والعقل يفرض على السليم الذي يعيش في بلدة الوباء أن يفر منها إلى بلدة سليمة حتى لا يصاب هو بالوباء، ولكن الطب الحديث يدرك أن الشخص السليم في منطقة الوباء قد يكون حاملاً للميكروب دون أن تظهر عليه أعراض المرض، وهناك أيضاً فترة حضانة، وهي الفترة الزمنية التي تسبق ظهور المرض منذ دخول الميكروب إلى الجسم، وفي هذه الفترة يكون انقسام الميكروب وتكاثره على أشده؛ ومع ذلك يمكن أن لا تظهر على الشخص في فترة الحضانة أية أعراض مرضية، ولكنه بعد فترة تطول أو تقصر -على حسب شدة المرض وحالة المريض- تظهر عليه أعراض المرض الكامنة في جسمه؛ فمنعه من الخروج منع لانتشار المرض وحصره في منطقة الإصابة فحسب، وهذه بلا شك معرفة طبية حديثة لا يدركها أحد زمن الوحي،  والشخص الحامل للمرض أو المريض الذي لا يزال في فترة الحضانة يعرض الآخرين الأصحاء للخطر دون أن يشعر هو؛ أو الآخرين، لذا جاء المنع الشديد من خروجه من مكان الوباء، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم  ذنباً كبيراً كذنب الهارب من الزحف، وفيه تجريم كبير للفرار من أرض الوباء لا تفسره إلا المعرفة الحديثة. 

ولقد ضربت موجات الطاعون أوربا في القرن الخامس عشر الميلادي، فقضت على ربع سكانها وحينما وصلت إلى حدود العالم الإسلامي توقفت، وتوالت كوارث الطاعون والأوبئة بدون معرفة بأسبابها، وقد حار فيها الناس فنسبوها إلى الأرواح الشريرة أو أحوال النجوم أو الهواء الفاسد، وتقدمت العلوم واكتشفت العوالم الخفية من الكائنات الدقيقة، وعرفت طرق تكاثرها وانتشارها وكيفية تسببها في إحداث الأمراض والأوبئة، وتبين أن الأصحاء الذين لا تبدو عليهم أعراض المرض في مكان الوباء قد يكونوا حاملين للمرض، فيشكلون مصدر الخطر الحقيقي في نقل الوباء إلى أماكن أخرى إذا انتقلوا إليها، ولهذا نشأ نظام الحجر الصحي المعروف عالمياً الآن، والذي يمنع فيه جميع سكان المدينة التي يظهر فيها الوباء من الخروج منها كما يمنع دخولها لأي قادم إليها، وهذا صريح التوجيه النبوي، ولضمان التنفيذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم سوراً منيعاً حول مكان الوباء؛ فوعد الصابر بالبقاء في مكان المرض بأجر الشهداء، وشدد على الفار كأنه هارب من معركة معرض إخوانه للهلاك.

وجه الإعجاز:

إن منع الخروج من الأرض التي نزل فيها الطاعون يعتبر طريقة للوقاية من انتشار المرض وحصره في منطقة الإصابة به فحسب، وهذه بلا شك حقيقة طبية حديثة لم يكن بوسع أحد أن يدركها زمن نزول الوحي، خاصة وأن الشخص الحامل للمرض أو المريض الذي لا يزال في فترة الحضانة يعرض الآخرين الأصحاء للخطر دون أن يشعر هو، وكذلك الآخرون بذلك الخطر، لذا جاء المنع الشديد من خروجه، بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الخروج ذنباً كبيراً يعادل ذنب الهارب من الزحف، أي أن ذلك يعتبر تجريماً له، فتطابقت بذلك الدلالة النصية مع الحقيقة العلمية المستقرة مما جعل هذه النصوص مظهر إعجاز علمي واضح.