البعوضة


البعوضة

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ البقرة: 26.

الدلالة النصية:

في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ البقرة: 26؛ بيان بأهمية البعوضة وخطرها على الإنسان، وإن استهان بها واستحقرها لضآلتها، وفيه تصريح بوجود ما هو أكثر ضآلة منها ويشاركها الخطر.

الحقيقة العلمية:

في هذا النص إشارة إلى ما يمكن أن تسببه البعوضة من أمراض، والإعلان قبل اكتشاف المجهر في القرن السابع عشر، والمعرفة بالكائنات الدقيقة كالميكروبات والفطريات والفيروسات لم يرد في أي كتاب آخر ينسب للوحي سوى القرآن  الكريم، وهذا مثل صارخ لتسامي القرآن الكريم عن النظرة النسبية في الحكم على الأشياء، وتنزهه عن التصورات المغلوطة الشائعة، وفي بيئة التنزيل لم يعرف عن البعوضة سوى أنها غير ذات شأن؛ من جملة ما يستحيى من ذكره في المسائل العظام، فلا يسوغ أن تلقى أي عناية أو اهتمام، ثم إن اعتبارها غاية المثل في الضآلة والاستحقار قد انتهى عندما كشف القرآن خطر البعوضة -وإن لم يدركه المخاطبون- وأنها ليست نهاية الضآلة كما يتصورون، ويماثلها في الخطورة؛ وذلك قبل اكتشاف المجهر والمعرفة بالأمراض الخطيرة التي تسببها البعوضة وعوالم الكائنات الحية الأدق والغير المرئية، وهكذا تجاوز القرآن الأفق الأعلى لمعارف المخاطبين لعدة قرون ورفع أستار المجهول جملة واحدة، قال الرازي (رحمه الله تعالى): “أراد بما فوقها في الصغر، أي: بما هو أصغر منها، والمحققون مالوا إلى هذا القول؛ لأن: الغرض هاهنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير، وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانياً أشد حقارة من الأول..، والشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب، فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله تعالى، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير.. وإذا قيل هذا فوق ذلك في الصغر وجب أن يكون أكثر صغراً منه”، وقال الماوردي: “(فما فوقها) في الصغر لأن الغرض المقصود هو الصغر”، وقال الألوسي: “والزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه هو الصغر والحقارة، فهو تنزل من الحقير للأحقر”، وقال السعدي: “المعنى الذي ضربت فيه مثلاً هو القلة والحقارة..، ولا يقال كيف يضرب المثل بما دون البعوضة؛ وهي النهاية في الصغر؟، لأن التعقيب على الآية: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾.. يجعلهم يتفكرون فيها، فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ازداد بذلك علمهم وإيمانهم وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق؛ وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثاً بل لحكمة بالغة”، ويقرر نوري الجاوي في تفسيره (مراح لبيد) أن نبأ ما دون البعوضة: “لا يسوغ إنكاره لأنه ليس عبثا؛ً بل هو مشتمل على أسرار”.

لم يعرف دور البعوضة في نقل طفيل الملاريا مثلاً إلا قبيل بداية القرن العشرين، عندما تمكَّن الفونس لافيران من معرفة الطفيل المسبب للملاريا عام 1880، وفي عام 1897 اكتشف سير رونالدز روز انتقال الطفيل عن طريق البعوضة، وفي عام 1898 تمكَّن فريق من الباحثين من تأكيد دور البعوضة في نقل المرض، وكلمة “ملاريا” إيطالية الأصل، وتعني الهواء الفاسد، وقد بقيت مستخدمة حاليا كمصطلح تاريخي يعكس الاعتقاد الخاطئ بأن المرض ينتقل للإنسان عن طريق الهواء الفاسد؛ وذلك قبل أن يُعرف دور البعوضة في نقل الطفيليات المجهرية التي تسببه، وسبب وباء الحمى الصفراء لم يكن معروفا قبيل بداية القرن العشرين، وفي عام 1881 افترض كارلوس فينلاي أن الناقل هو البعوض، وهو ما أكده ميجور والتر عام 1900، وأثبته ويليام جورجاس في القرن العشرين، وبالتخلص من البعوض أثناء شق قناة بنما تراجع المرض، وفي نفس الفترة اكتشف باتريك مانسون طفيل الفلاريا الذي يسبب داء الفيل، وعرف أن الناقل له هو البعوض.

وجه الإعجاز:

لقد ضرب الله مثلاً بالبعوضة رغم أنها ذات حجم صغير وشأن حقير، وضرب المثل بالبعوضة هو من جملة المتحدى به مما يحمل علماً لا يدرك أغواره أحد زمن تنزيل القرآن الكريم،  وفيه إشارة إلى أنها ذات أثر خطير في حياة المخاطبين، ولقد جاءت الكشوف العلمية في هذا المجال مطابقة لما دل عليه النص القرآني، فكان ذلك إعجازاً علمياً باهراً.