من أبحاث المؤتمر العالمي الثامن للإعجاز العلمي في القرآن والسنة بدولة الكويت 1427هـ – 2006م
د. مجدي إبراهيم السيد
أخصائي جراحة حروق وتجميل بمستشفى النور التخصصي / مكة المكرمة
ملخص البحث
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله ومن تبع هديه إلى يوم الدين ،
– يقول صاحب نيل الأوطار ، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقالوا يا أبا هريرة كيف يفعل قال يتناوله تناولاً ” رواه مسلم وابن ماجة . ولأحمد وأبي داود ” لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه من جنابة ” .
والحديث ” لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ” رواه الجماعة ( أصحاب الكتب الستة ، هم البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأصحاب السنن الأربعة وهم أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة ) وهذا لفظ البخاري ، والترمذي ثم يتوضأ منه ، ولفظ الباقين ثم يغتسل منه ” انتهى كلامه .
والماء الراكد هو الماء الواقف الذي لا يجري ، والدائم هو الماء الذي لا ينقطع مدده فيستمر وجوده .
هكذا ، فقد ثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، واستدل منه الفقهاء ، على حرمة البول في الماء الراكد الذي لا يجري ، وكراهية ذلك في الماء الجاري إن كان كثيراً ، وتصل هذه الكراهية للحرمة ، إن كان الماء الجاري قليلاً ، لمظنة تغيره بذلك .
كما أجمعوا على أن حرمة التغوط في الماء ، أشد من حرمة التبول فيه . ( أنظر كتاب نيل الأوطار )
أما عن استعمال الماء الراكد للضرورة ، في الوضوء أو الاغتسال ، فلم يحرم ذلك ، وإنما حرم الانغماس فيه . ( أنظر كتاب نيل الأوطار )
ولقد ورد ، أيضاً ، النهي المباشر عن الشرب من الماء الراكد كما في إحدى الروايات التي أخرجها ابن حبان في صحيحه .
وكذلك ، ورد النهي المباشر عن البول في الماء الجاري ، كما في الحديث ، الذي رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد . ( أنظر كتاب الترغيب والترهيب )
كما ورد النهي ، عن التخلي في الظل والطرق وعامة الموارد ، وإن كانت الأحاديث في ذلك بها ضعف . ( أنظر كتاب سبل السلام )
والذي نراه اليوم ومنذ القدم في أحوال الناس مع الماء الراكد ، أنه مصدر لمرض البلهارسيا ، والتي عرفت قديماً بالبيلة الدموية . وحتى بعد أن أكتشفت دورة حياة البلهارسيا ، وعرفت طرق المقاومة والعلاج ، ومع الإعلام ، وانتشار التمدين وبناء السدود وتقدم نظم الري ، فإننا نرى اليوم أن هذا المرض الذي كان ظاهرة لا يعرف لها سبب ، أصبح وباء يحصد ملايين البشر .
فإن المصابين بداء البلهارسيا اليوم في العالم ، يربو عن 300 مليون مصاب ، غالبيتهم من المصابين ببلهارسيا الأمعاء الأكثر خطورة ، والتي يصحبها الإصابة بفيروس الكبد ، الذي لم يعرف إلى الآن حقيقة ارتباطه بهذا الداء .
والذي نراه في العالم اليوم ، أن طرق المقاومة اتجهت أساساً ، إلى العلاج الجماعي ، وطرق إبادة القواقع ، وتجفيف البرك والمستنقعات ، ونشر الوعي الصحي والمحاضرات ، والدعوة إلى تجنب استخدام الماء في الأماكن الموبوءة بأي شكل من الأشكال . ولكن الحاصل بعد ذلك والمتوقع ، أن ترتفع معدلات الإصابة باضطراد .
وتالله فإن لله في كل شأن مقال ، وإن شرع الله سابق ، فلا تخفى على الله حوائج الناس وطبائعهم ، كما لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء . إنها تعاليم الإسلام ، في الماء والطهارة ، التي خفيت علينا اليوم ، وخسرها العالم بتنحي دور المسلمين الفاعل ، فإنها كانت يوم كان للمسلمين ريادة .
فإن السركاريا تنجذب للأسطح والظل والحرارة والأحماض الدهنية المنبعثة من الجلد . ولكن في تناول الماء : 1- تنجذب السركاريا لجدران الآنية . 2- إذا صُبَ الماء للاستخدام على الجسم في الوضوء والغسل مثلاً ، فإن باقي السركاريا تنساب مع الماء على الجلد فلا تعلق به ، فالجلد الذي لم يتعرض للانغماس ، سطح غير محب للماء . 3- وبعد ذلك ، فإن الطبقة الدهنية الحامضية من إفراز الغدد العرقية والدهنية ، على الجلد الذي لم ينغمس في الماء ، قاتلة للسركاريا .
( وقد عرفت أيضاً طرق الوقاية الجلدية من البلهارسيا في التدهن بالبرافين والقطران والدايميثيكون قبل الخوض في الماء ، تعمل عن طريق وقاية الطبقة الدهنية للجلد من أثر الانغماس )
وهكذا ، فإن العدوى لا تحدث إلا بالانغماس ، وفي تناول الماء الراكد عند ضرورة الاستخدام وقاية من الإصابة ؛ وتلك هي تعاليم الدين بيسرها ونفعها وموافقتها للحوائج وأدق العلوم والمعارف .
( وردت الأحاديث بما يدل على جواز اقتحام الماء الجاري ، إذا كان غمراً كثيراً ؛ كما ورد أن ماء البحر مطهر على إطلاق المعني في غير حذر أو احتراز . أما ماء الشرب فقد دلت آيات الكتاب على وجوب اختزانه في حرز ، أو حيازة مصدره فلا يترك لمظنة تلويثه بأي شكل من الأشكال ، والأصل الذي تقاس عليه صلاحية ماء الشرب ، هو ماء السماء ) أنظر أصل البحث
كما أننا نرى من حكمة التشريع ، أن النهي عن تلويث المياه وحده لا يكفي ، فإن للناس طبائع تجعل تمام هذا المراد درب من الخيال . فنرى النص على حرمة الانغماس في الماء الراكد ، والذي ثبت لنا حالياً أنه فعلاً الطريقة الحقيقية للعدوى بالبلهارسيا والطفيليات ، والتي نعرفها الآن بالعدوى عن طريق الجلد .
وفي نفس الوقت نرى أن المنهج الإسلامي يعنى بالاستخدام الآمن للماء الراكد عند الضرورة ، بتناول الماء فقط ، والاحتراز التام من الانغماس فيه ؛ وفي ذلك اعتبار لأحوال وحاجات الناس في تلك البيئات ، والتي لم يستشعرها واضعوا برامج مكافحة البلهارسيا ، للآن .
كما نلحظ من دلالة الحديث ، أن حرمة الانغماس في الماء الراكد لا ترتفع ، وإن اجتنب الناس تلويث الماء فرضاً ؛ ويوافق ذلك أن القوارض والثدييات وحدها قد تتم دورة البلهارسيا ، فتحدث الإصابة لمن يرتاد تلك المياه ، وإن كانت غير مأهولة بالناس .
ولقد شاعت وعمت ثقافة المسلمين كافة الأرجاء ، يوم أشرقت شمس دولة الإسلام ، حتى لقد أصدر جنكيز خان مرسومه بقتل الزناة محصنين كانوا أو غير محصنين ، كما أصدر بقتل من بال أو انغمس في الماء الواقف ، بغير هوادة ولا تمييز .
فالله نسأل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم