الإبل


الإبل

قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ الغاشية: 17-20،

الدلالة النصية:

في الآية بيان لمظاهر التقدير في الخلق مما ينفي المصادفة العمياء، واختيرت الإبل لأنها من أجلى آيات القدرة والعلم وسبق التقدير في بيئة العربي زمن التنزيل، والترتيب منتظم وفق الرؤية لا مراحل الخلق؛ وكأن ذلك العربي يستريح في ظل ناقته ويتأمل شموخ هامتها حتى بدت دونها السماء ثم الجبال تليها الأرض، فكشف الترتيب ميزة للإبل فوق الدلالة على تفردها بخصائص جعلتها الأنسب تكيفاً مع بيئة الصحراء، حتى سميت بسفينة الصحراء.

الحقيقة العلمية:

تعتبر الإبل نموذجاً فريداً في إعجاز الخلق، ففي عامي 1984 و1985، حين أصيبت إفريقيا بالجفاف هلكت أو كادت تهلك في كينيا كل القبائل التي كانت تعيش على الأبقار التي كفت عن إفراز اللبن ثم مات معظمها، بينما نجت القبائل التي كانت تعيش على الإبل، لأن النوق استمرت في الجود بألبانها في موسم الجفاف. ومن هنا أصبح للاهتمام بالإبل أيضاً دوافع اقتصادية ومستقبلية مهمة، وفي هذه الآية الكريمة يدعونا الحكيم العليم إلى التدبر في آيات الخلق، وبينات تنزيل القرآن الكريم، وبصدد بعض المظاهر في خلق الإبل التي يستوي في تفهم تلك الآيات البدوي بفطرته السليمة في صدر الإسلام، وعلماء الأحياء اليوم باعتبارها بينة دالة على عظمة الخالق سبحانه و تعالى وكمال قدرته وعظيم تدبيره، وما كشفه العلم حديثاً عن بعض الحقائق المذهلة في خلق الإبل يفسر لنا ولو من بعض الوجوه: لماذا خص الله جل و علا هذا المخلوق العجيب من بين ما لا يحصى من مخلوقاته بالذكر! ولتفصيل ذلك نلاحظ ما يأتي:

الإبل نوعان: ذوات السنام الواحد؛ وهي الإبل العربية التي تنتشر في شبه الجزيرة العربية وفي مناطق تمتد شرقا إلى الهند وغرباً إلى البلاد المتاخمة للصحراء الكبرى في إفريقيا، أما النوع الثاني فهو الإبل الفوالج ذات السنامين التي تستوطن أواسط آسيا، وتفيد الإحصائيات إلى وجود نحو 190 مليون رأس من الإبل في العالم أكثرها عربية من ذات السنام الواحد، وأول ما يلفت الأنظار في الإبل خصائصها الفريدة ذات اللطائف التي تأخذ بالألباب لما فيها من تأهيل مسبق يمكنها من العيش بكفاءة في الظروف الصحراوية القاسية مما يدفع المصادفة وكل محاولات الملاحدة في طمس حقيقة وجود التقدير في الخلق، والعناية الإلهية بهذا المخلوق، فالعينان محاطتان بطبقتين من الأهداب الطوال تقياهما القذى والرمال، أما الأذنان فصغيرتان قليلتا البروز والشعر يكتنفها من كل جانب ليقيها الرمال التي تذروها الرياح، ولهما القدرة عن الانثناء خلفاً والالتصاق بالرأس إذا ما هبت العواصف الرملية، كذلك يتخذ المنخران شكل شقين ضيقين محاطين بالشعر ويستطيع الجمل أن يغلقهما ليدفع ما قد تحمله الرياح إلى رئتيه من دقائق الرمال.

وتصميم أقدام الإبل هو الأنسب لبيئتها، فهو مصمم بعلم وقصد يخبر عن مشيئة علية قدرت، فأقدام الإبل كبيرة جدا حتى لا تسوخ في الرمال، فزيادة مساحة الخف يساعدها على أن تمشى على الرمل دون أن تسوخ فيه، وأما جلد أسفل باطن القدم فثخين جدا ليقيها من الرمال الحارة أثناء القيظ، وذيول الإبل تحمل كذلك على جانبيها شعراً يحمى الأجزاء الخلفية من حبات الرمل التي تثيرها الرياح السافيات كأنها وابل من الرصاص، أما قوائمها فهي طويلة لترفع جسمها عما يثور تحته من غبار، كما أنها تساعده على اتساع الخطوات وخفة الحركة فيقطع مسافة كبيرة بخطوات محدودة مقارنة بغيره من الدواب؛ مما يجعله أنسبها للركوب خاصة في الرحلات الطويلة في الصحراء، وتتحصن أقدام الجمل بخف يغلفها جلد قوي غليظ يضم وسادة عريضة لينة تتسع عندما يدوس الجمل بها فوق الأرض؛ ومن ثم يستطيع السير فوق أكثر الرمل نعومة، وهو ما يصعب على أية دابة سواه ويجعله جديراً بلقب سفينة الصحراء، وما زالت الإبل في كثير من المناطق القاحلة الوسيلة المثلى لارتياد الصحارى، وقد تقطع قافلة الإبل بما عليها من زاد ومتاع نحواً من خمسين أو ستين كيلومترا في اليوم الواحد، ولم تستطع السيارات منافسة الإبل في ارتياد المناطق الصحراوية الوعرة غير المعبدة، ومما يناسب ارتفاع قوائم الجمل طول عنقه حتى يتمكن من تناول طعامه من نباتات الأرض، كما أنه يستطيع قضم أوراق الأشجار المرتفعة حين يصادفها، هذا فضلاً عن أن هذا العنق الطويل يزيد الرأس ارتفاعاً عن التيارات الرملية السطحية، وحين يبرك الجمل للراحة أو يناخ ليعد للرحيل يعتمد جسمه الثقيل على وسائد من جلد قوي سميك على مفاصل أرجله، ويرتكز بمعظم ثقله على كلكله، ولو جثم به فوق حيوان أو إنسان لكسر عظامه، وهذه الوسائد إحدى معجزات الخالق التي أنعم بها سبحانه وتعالى على هذا الحيوان العجيب؛ حيث تهيئه لأن يبرك فوق الرمال الخشنة الشديدة الحرارة التي كثيراً ما لا يجد سواها مفترشاً فلا يبالي بها ولا يصيبه منها أذى، والحيوان الوليد يخرج من بطن أمه مزودا بهذه الوسائد، فهي شيء ثابت موروث، وليست من قبيل ما يظهر بأقدام الناس من الحفاء أو لبس الأحذية الضيقة؛ مما يخجل القائلين بالمصادفة، وللناس في الإبل منافع أخرى غير الانتقال وحمل الأثقال، فهم ينالون من ألبانها ولحومها وينسجون الكساء من أوبارها، ويبنى البدوي خباءه من جلودها. وفي الحديث الشريف : “لا تسبوا الإبل، فإن فيها رقوء الدم، ومهر الكريمة”، ومعنى رقوء الدم لأنه كانت تدفع بها الديات في حوادث القتل، فتوقف نزيف الدم الإنساني، وأما مهر الكريمة أي مهر عرسها، ويكفي أن نتأمل الأدب الراقي في النهي حتى عن سب الحيوان، وحسب الإبل فضلاً أن الله جعلها خير ما يهدى إلى بيته المحرك وجعلها من شعائره: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ الحج: 36، هذه بعض أوجه الإعجاز في خلق الإبل من ناحية الشكل والبنيان الخارجي، وهي خصائص يمكن إدراكها بالفطرة، وتكفي المتأمل منذ الوهلة الأولى بإعجاز الخلق الذي يدل على قدرة الخالق سبحانه وتعالى، وأما خصائص الإبل الوظيفية ففيها ما فيها من أسرار تهز القلب الفطين ليتفلج من قوة اليقين، ففي بيئة الصحراء التي يقل فيها الزرع والماء لا يكتب العيش إلا لحيوان فطر الله تعالى جسمه على حسن تدبير أمور استخدام ما عنده من ماء وغذاء بغاية الاقتصاد، وللإبل في هذا أساليب معجزة فطرها الخالق عليها تدعو للعجب وتدفع كل ذي حس يقظ لتسبيح الخالق: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾طه: 50، فالجهاز الهضمي للإبل قوى بحيث تستطيع أن تهضم أي شيء تجده إذا تعذرت الأعشاب، وهي لا تتنفس من الفم ولا تلهث أبداً مهما اشتد الحر أو استبد بها العطش، وهي بذلك تتجنب تبخر الماء من هذا السبيل.

وتمتاز الإبل بأنها لا تفرز إلا مقداراً ضئيلاً من العرق عند الضرورة القصوى بسبب قدرة أجسامها على التكيف مع المعيشة في ظروف الصحراء التي تتغير فيها درجة الحارة بين الليل والنهار، وأجسام الإبل مغطاة بشعر كثيف يقوم بعزل الحرارة ويمنعها من بلوغ ما تحت الجلد، ويستطيع جهاز ضبط الحرارة في الجسم أن يجعل مدى تفاوت الحرارة نحو سبع درجات كاملة دون ضرر، أي بين 34م و41 م، ولا يضطر الحيوان إلى العرق إلا إذا تجاوزت حرارة جسمه 41م؛ ويكون هذا في فترة قصيرة من النهار، أما في المساء فإنه يتخلص من الحرارة التي اختزنها عن طريق الإشعاع إلى هواء الليل البارد دون أن يفقد قطرة ماء واحدة، وهذه الآلية وحدها توفر للحيوان خمسة لترات كاملة من الماء، وتستطيع الإبل أن تتحمل درجة حرارة تصل إلى 70 درجة فوق الصفر، والإبل ذات السنامين تستطيع أن تتحمل البرودة حتى 52 درجة تحت الصفر، ولذا يستطيع هذا النوع أن يعيش في ارتفاعات تصل إلى 4000 متر فوق سطح البحر، وإنتاج الغذاء والماء من الشحوم الموجودة في السنام بطريقة كيماوية يعجز الإنسان عن مضاهاتها، يفسر قدرة الإبل على تحمل الجوع والعطش لفترات طويلة، ومعظم الدهن الذي يختزنه الحيوان في سنامه يلجأ إليه حين يشح الغذاء أو ينعدم، فيحرقه شيئاً فشياً بلا علم منه ولا اختيار؛ فيذوى السنام يوماً بعد آخر حتى يميل على جنبه ثم يصبح كيساً متهدلاً خاوياً إذا طال الجوع والعطش بالجمل المسافر الضامر، مصداقا لقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىَ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ﴾ الحج: 27؛ إشارة إلى المعرفة بأن السنام مخزون الماء والغذاء ولذا يؤدي السفر الطويل إلى ضمور مخزون الإبل مع قطع مسافات طويلة على السطح المنحني للأرض نحو الأسفل في كل اتجاه من الإبل، كالمناكب بالنسبة للرأس، والحيوان الظمآن يستطيع أن يطفئ ظمأه من أي نوع وجد من الماء، حتى وإن كان ماء البحر أو ماء في مستنقع شديد الملوحة أو المرارة، وذلك بفضل استعداد خاص في كليتيه لإخراج تلك الأملاح في بول شديد التركيز، بعد أن تستعيد معظم ما فيه من ماء لترده إلى الدم، ومن حكمة خلق الله تعالى في الإبل أن جعل احتياطي الدهون في الإبل كبيراً للغاية بحيث يفوق أي حيوان آخر، ويكفي دليلا على ذلك أن نقارن بينه وبين الخروف المشهور بإليته الضخمة المملوءة بالشحم، فعلى حين نجد الخروف يختزن زهاء 11كجم من الدهن في إليته نجد أن الجمل يختزن ما يفوق ذلك المقدار بأكثر من عشرة أضعاف؛ أي نحو 120 كجم، ولهذا يستطيع الجمل أن يقضي فترات طويلة بدون ماء يشربه. ولكن آثار العطش الشديد تصيبه بالهزال وتفقده الكثير من وزنه، وبالرغم من هذا فإنه يمضي في حياته صلبا صلدا لا تخور قواه إلى أن يجد الماء العذب أو المالح فيعب عبا مصداقا لقوله تعالى: ﴿ثُمّ إِنّكُمْ أَيّهَا الضّآلّونَ الْمُكَذّبُونَ. لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقّومٍ. فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾ الواقعة: 51-55.

وجه الإعجاز:

هذه  الآيات الباهرات يدرك منها كل عاقل وجه الإعجاز حيث يوجيه القرآن الإنسان إلى التأمل في خلق الإبل باعتبار أن في خلقها آيات من إحكام التقدير ولطف التدبير مما شغل المتأملون على مر العصور، وجاء العلم ليكشف بعض خفاياها مما مر معنا، والذي يظهر فيه تطابق ما عرفه العلم يقيناً مع ما دلت عليه هذه النصوص القرآنية… وبالله التوفيق.