أعماق المحيطات


أعمـــاق المحيطـــات

قال تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ النور: 40.

 

الدلالة النصية:

البحر اللجي يعني العميق، قال الشوكاني (ج4ص58): “الذي لا يدرك لعمقه”، وفيه تمثيل لأحوال المكابر النفسية Deep Oceans من ظلمات وإضطراب بأحوال حسية للبحر المحيط، وبهذا يتضمن التعبير بيانا لأحوال خفية للمحيطات العميقة ، (أولا) تشتد الظلمة مع العمق، (ثانيا) تتميز المحيطات بكثرة السحب التي تمتص وتعكس بعض ضوء الشمس، (ثالثا) تعكس الأمواج السطحية بعض ضوء الشمس، (رابعا) تيارات محيطية عميقة تولد موج داخلي تعكس المزيد من الضوء.

 

الحقيقة العلمية:

لقد آمن الأقدمون بخرافات عديدة عن البحار والمحيطات، واعتقدوا بوجود حيوانات وحشية غريبة الخلقة تعيش في أعماقها، ولم تتوفر حتى للبحارة آنذاك معرفة حقيقية عن الأحوال السائدة في أعماق البحار، وكانت المعلومات عن التيارات البحرية نادرة، ولم تتوفر أية معلومات عن الأمواج الداخلية في العصور الماضية، وسيطرت الخرافات فيما يتعلق بالمياه الراكدة التي لا يمكن أن تعبرها البواخر، واعتقد الرومان القدماء بوجود أسماك مصاصة لها تأثيرات سحرية على إيقاف حركة السفن، وبالرغم من أن القدماء عرفوا أن الرياح تؤثر على الأمواج والتيارات السطحية إلا أنه كان من الصعب عليهم أن يعرفوا شيئًا عن الحركات الداخلية في المياه، ولم تبدأ الدراسة المتصلة بعلوم البحار وأعماقها على وجه التحديد إلا في بداية القرن الثامن عشر؛ عندما توفرت الأجهزة الضرورية لمثل هذه الدراسات المفصلة، ومعرفة كل تلك الظواهر التي أشارت إليها الآية الكريمة في أعماق المحيطات كانت مجهولة وقت نزول القرآن الكريم.

،The Secchi Disk وأبسط جهاز علمي لقياس عمق نفاذ الضوء في مياه المحيط هو قرص سيتشي

Ciladi and Secchi ويتم إنزاله إلى الماء ليسجل العمق، وقد وصفه لأول مرة سيلادي وسيتشي

عام 1865م، وبالرغم من استعماله على نطاق واسع، إلا أن قياس هذا الاختراق في ماء البحر بصورة أدق لم يتحقق إلا باستخدام الوسائل التصويرية في نهاية القرن الماضي باستخدام الخلايا الكهرو ضوئية خلال الثلاثينيات فقط، وينخفض مستوى الإضاءة في مياه المحيط المكشوفة إلى نسبة 10% من مستواه عند السطح عند عمق 35م، وإلى 1% عند عمق 85م، وإلى 0.1% عند عمق 135م، وإلى 0.01% عند عمق 190م، والأسماك التي تعيش في أعماق البحار قد تتمكن أن ترى أفضل من ذلك نتيجة لتكيف العين لتستقبل أكبر كمية ممكنة من الضوء إذا لم تكن مهيئة للاستفادة من النور الحيوي المتولد كيميائياً لإضاءة المحيط حولها.

وأما ظاهرة الأمواج الداخلية، فيعود الفضل في تفسيرها للدكتور ايكمان عام 1904م؛ حيث فسر بها ما يعرف بظاهرة المياه الراكدة التي توجد في الخلجان النرويجية، فالسفن التي تبحر في هذه الخلجان تفقد فجأة قدرتها على التقدم فتقف ساكنة، ورأي ايكمان أنها تنجم عن الأمواج الداخلية التي تتولد على السطح الفاصل بين مياه السطح والمياه التي تحتها، ويتراوح طول الأمواج الداخلية من عشرات إلى مئات من الكيلومترات، ومرور الأمواج الداخلية يكون محسوسًا بصورة أقوى من قبل الغواصات، والأمواج الداخلية ظاهرة أصبحت معلومة في مضيق جبل طارق، وقد يتسبب التدفق الداخلي للتيار السطحي القوي، والتدفق الخارجي للتيار السفلي في دخول الأمواج الداخلية من المحيط الأطلنطي إلى المضيق كأنها أمواج متكسرة مثل الأمواج المزبدة على الشاطئ؛ مما يتسبب في تولد قدر كبير من الاضطرابات الداخلية. 

وقد جمعت الآية الكريمة كل تلك المعارف الحديثة ودلت بإيجاز على ما يلي:

1 ـ أن الظلام ينتشر في أعماق المحيطات.

2 ـ أن مياه المحيطات تحوي الأمواج الداخلية.

3 ـ أن هناك فوق الأمواج الداخلية طبقة مائية أخرى هي الطبقة السطحية التي تحوي الأمواج السطحية.

4 ـ أن هذه الطبقات المائية تولد بالإضافة إلى الغيوم التي تعلوها طبقات من الظلام التدريجي.

5 ـ أن شدة الظلام تتلازم مع الأمواج الداخلية في المياه العميقة.

6 ـ أن الأحياء البحرية في أعماق المحيطات مزودة بنور يتولد ذاتيا لإضاءة المحيط حولها.

 

وجه الإعجاز:

يدعو إلى الدهشة حقاً أن القرآن الكريم قد أشار إلى تلك الظواهر مجتمعة من 14 قرناً في دقة متناهية وتصوير رائع مثير يتفاعل معه الوجدان وكأنه أمام واقع حي تشاهده العين في قوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ النور: 40.